لشرح الاهمية التي احتلتها الانطباعية في تاريخ فن القرن التاسع عشر , يتوجب علينا فهم ماهية هذة الحركة الفنية ومكنونات عناصرها.
فالانطباعية يمكن استيعابها فقط من خلال محتواها التاريخي المؤثر , فأنها لم تنبثق عشوائيا ولم تبلغ مدى نهايتها قبل ان تؤثر باحداثها تغييرات عميقة على موجات من الفنانين الرسامين واللذين كانوا موسيقيين وادباء ومبدعين في الوقت نفسه .
اتسم القرن التاسع عشر بالاحداث السريعة والثورات والتقدم العلمي في الاكتشافات والاختراعات واصدار الدوريات العلمية والمعارض الصناعية والتجارية ...الخ .
تطورت خلالها العدسات البصرية والمنظور والصور ذات الابعاد الثلاثه وما تسويق الالعب البصرية الا نتيجة عن ذلك , فصنع (الزيوتروب) عام 1860 و(البراكسينوسكوب) عام 1877 وتبعهما (الكاليداسكوب) و (الستيريوسكوب) وهي العاب بصرية توحي بوهم في الحركة وتجعل المنظور كموشور متعدد الالوان .
ومن الدراسات العلمية المتقدمة في الضوء واللون كانت بحوث العالم الكيمياوي الفرنسي (اوغن شافرلو) وكان مديرا لقسم الصباغة في مصنع (غلوبس ) للنسيج في باريس وتناول مؤلفه ( مباديء التدرج والتضاد اللوني وتطبيقاتها في الفن ) معالجات في تفاعل الاصباغ في صناعة النسيج ووضع به ولاول مرة نظاما من القوانين المتحكمة بتغير بعض الالوان عند استخدامها وكيفية تغيرها نسبة لبعد المشاهد لها ,وشملت تلك الابحاث كافة الحقول التي يستخدم بها اللون بما فيها ألوان الرسم الزيتي , ونرى ذلك واضحا في اعمال الفنان ( اوغين دلا-كروا 1839) حيث منحته هذة المعرفة , فهما اكثر دقة في التطبيقات التقنية للرسم .
كان اختراع الة التصوير الفوتوغرافي موثرا بشدة على الرسم على الرغم من كون البعض من امثال الشاعر ( بودلير ) لم يعتبر الفوتوغراف فنا , بل انه تهجم على الفوتوغرافيين ,,,, ولكن الفوتوغراف كشف عن مظهر جديد للحياة عبر تلقائية المشهد , وتنوع عمق البؤرة , كشف عن الغشاوة والضبابية لهالات الضوء الصاطع , عن تنوع زوايا المشهد , عن تحريف التفاصيل , عن اللقطات الخاطفة والاستحواذ على الضياء ..... الخ
ألهم الفوتوغراف فناني ذلك الزمان وحفزهم لبلوغ نتائج مشابهة لتقنياته ومميزاتها خصوصا واقعيته وكيفية التقاط عدساته لوميض المؤثرات الضوئية الهاربة .
الانطباعية نهج فني بزغ في فرنسا وانتقل تدريجيا الى بلدان اخرى , يعد حقا ثورة في دنيا الفن لتأكيده مبدأ حرية التعبير المطلقة عن انطباعات ومشاعر الفنان الشخصية ازاء موضوعاته دون الالتزام بشروط ومنهجية المدارس الفنية التي سبقته .
الانطباعيون رسامون تجوز تسميتهم بحق بفناني بيئة ., فغالبا ما كانوا يرسمون اعمالهم في الهواء الطلق وقد اضافوا تقنيات تتناسب والرسم خارج المشغل منها كيفية سرعة ضربات الفرشاة وترك من الخامة مساحات غير مشغولة باللون, اعتماد الالوان الاولية وبشفافية الطيف الشمسي واقتناص الاضاءة ,,,
ان مايثير الانتباة والملاحظة هو الدور الذي لعبتة مدرسة فن الرسم الانغليزية في تحول الرسم الفرنسي وتطورة نحو الانطباعية , وقد انكب رواد هذة الحكة امثال ( مونيه ) و(سيسلي ) و( بيسارو ) على دراسة اعظم فناني الطبيعة الانغليز, في اشرة ليبسارو ( ان لرسوم الالوان المائية لترنر وكونستابل تأثير بليغ على اعمالنا ) .
اقام الانطباعيون معرضهم الاول عام 1874 والاخير بعد ثمانية معارض , عام 1886 .اقيم المعرض الاول في مشغل المصور الفوتوغرافي ( نادار ) وشارك بة ثلاثون فنانا , رافقت المعرض موجة من النقد اللاذع من قبل الجمهور ونقاد الفن على السواء .
استعمل مصطلح الانطباعية اول مرة في مقالة لصحفي مغمور , حين تطرق الى لوحة مونيه ( انطباع عن شروق الشمس ) والتي صور بها مرسى ميناء ( هافر ) غارقا بضباب الصباح الكثيف.
كما تحيي كل ثورة صراخات الغوغاء العالية , فأن ما استقبلت بة الانطباعية كان جسيما بجفائة حين وصف فنها بالقبح وعدم التهذيب وانة باطل وغير نافع ......الخ
كان ذلك مما زاد من عناد روادها لشعورهم بان فنهم نابع من الوجدان ولا يحتاج لتبرير ,بل وتصدى الانطباعيون مدافعين عن ابداعهم فنشر ( مانيه ) انتقادات صلفة لمعلمي الفن الاوائل وعمق مونية تقنياتة المعقدة في ضربة الفرشاة وشحن انشاءات اعماله بتضمينها خصوصية توزيع الشخوص ومعالجة لون الظل .
ولكن بدى للعديدين , ان الرسم زائل وفي انحطاط , قلة من النقاد او من جمهرة الفن من راى في الانطباعية بشائر امل , فجائت كلمات من ( زولا ) و ( دورت ) و ( دوانتي ) واخرين ...من الصعب معرفة متى بدأت الانطباعية , لكننا نتوقف عند الاهمية التي اعطيت لاكاديمية الفنون الجميلة بباريس وقصر عروضها الصالون.. ولماذا تمحورت حول شخص ( ج ل دافيد 1748- 1825 وهو رسام من الطبقة الارستقراطية الجمهورية وكان نائبا في البرلمان وصوت على قرار اعدام لويس السادس عشر بعد الثورة الفرنسية عام 1789 .
ورغم المتغيرات التي عصفت بفرنسا فانها جوهريا تمسكت بوتيرة القرن السابع عشر نفسها, وشمل ذلك كل الموسسات ومن ضمنها اكاديمية الفنون الجميلة في باريس وقصر عروضها الصالون , ولكونها المنظمة الوحيدة المتاح لها الاشراف على جهاز التعليم الفني واقامة المعارض , ولكن بعد الثورة , انحط اسمها ووصفت بالتقليدية والرتابة في الاسلوب وجفاف الروافد
وكان ( دافيد ) زعيما للحركة الكلاسيكية الجديدة وهو تيار يستلهم موضوعاته من التاريخ الاغريقي والروماني وتواصل حتى القرن 19 حتى ظهرت الرومانسية بزعامة ( أوغين ديلا-كروا 1877-1798) متجاهلة اهمية التفاصيل الدقيقة للرسوم وفي غضون ذلك ثبتت حركة فنية اخرى اقدامها امام الكلاسيكية الجديدة والرومانسية على حد سواء , وهي الواقعية ومن فنانيها ( ميلين 1875 – 1814 )و ( ج غوربية 1877 –1819 ) وكان همهم نقل حياة الفلاحين وتصوير خشونتها ,,ثم واجهت الواقعية الازدراء من قبل المؤسسات الرسمية وممن يحلو لهم التمسك بفكرة ان على الفن ان ينشد السامى بتناولة الموضوعات النبيلة ,, رفض معرض ( كوربية ) من قبل الصالون, حيث كان يتوجب على الفنانين الالتزام بمعاير الصالون الصارمة فهو المجال الوحيد للحصول على دعم مؤسساتي والطريق المثلى لتسويق اعمالهم والفوز بتكلفة تنفيذ اعمال لجهاز الدولة , بمرور الوقت , امسى الصالون لايتعدى كونة حانوتا لبيع اللوحات حسب تعبير ( انغر 1867 – 1780 ) .
سرت هذة الازدواجية على الاعمال الفنية ايضا وكأنها مرسومة بيد واحدة , وزباءنها من مقتني الصور التي يسهل فهمها , زهور جميلة , موضوعات اسطورية ,وربما بعض مشاهد الخلاعة غير الفاضحة , المناظر الطبيعية كانت الاكثر رواجا ,, وغيرها من شروط ذوق البرجوازية الجديده .
بمواجهة هذة الخلفية برز الانطباعيون في مناخ لايسمح الا بالقليل للاختيار الفردي متفانين بمنهجهم الابداعي وفي غياب المداخيل الخاصة كانت محدودية الاختيار, اما الرسم بشروط وقواعد الاكاديمية او الموت جوعا ,,
والسؤال هنا , مالذي مكن الانطباعيين من الاستمرار ؟
الاجابة نجدها في جلسات المقاهي الشعبية حيث حلقات المثقفين وتجمعاتهم والوشائج التى ربطتهم ببعضهم , فقلما شهد تاريخ الفن هذة الوتيرة العالية من التلاقح والتمازج بين للافكار ونكران الذات ,, لا في امور الفن والجمال بل تعداها الى مستوى الحياة اليومية , مساعدات مالية مكنت الفنانيين من التواصل وايجاد من يأويهم دون زلف كما حدث بين ( سيزان ) و(زولا ).
انجذب الانطباعيون بشدة الى الالوان الاولية البراقة كالاحمر والازرق والاصفروتزييتها دون كلل بنثرها مباشرة على خامة (الجنفاص ) دون مزجها على الباليت,النموذج الاكثر شيوعا هو التلوين الزيتي بالفرشاة والابقاء على طراوتها في ملمسها وخشونتة اي عدم تمويه ما تتركة الفرشاة على الخامة بل ودون قصد ترك فضاءات من مساحة العمل دون املاء لوني ,, بتلقائية وانسيابية مع تحديد دقيق لكل درجة لون مع لون اخر ونادرا ما استخدموا اللون الاسود للظلال . وهو اسلوب كل من مونيه ورينوار وبسارو وسيسلي.
الفنان الانطباعي يخلق لحظة المشهد بسرعة سارقا الحظات الهاربة مقتطفا بؤر الضوء المتحركة ,مما يقصر من زمن اتمام رسم الوحة, عند (مونيه) مثلا لم تستغرق مدة انجاز العمل الفني اكثر من ربع ساعة وكان سرعان ما ينهي رسم لوحة حتى يبدأ برسم أخرى تبعا لتغير الانارة الطبيعية ,مما عمق الاتهامات الموجة ضدهم حيث اعتبرت اعمالهم الفنية غير كاملة.
الفنان الانطباعي ملهم بحاسة بصرية نادرة, وبعيون بريئة يرى الطبيعة ويستشف طراوتها, وتماما كما يراها ببساطة, يرسمها دون كلفة , ناكرا كل ما تعلمة من مناهج تربوية في مدارس الفنون عن المنظور والتخطيط والالوان وتقنيات العمل الفني , ماسحا من ذاكرتة كل تراكم الصور التي شاهدها في المتاحف.
في سجل زوار معرض الانطباعية لعام 1890 هذه الملاحطة :
( نسبيا اعد لوحات بيسارو اكثر تسويغا للفهم من غيرها ,على الرغم من كونها من دون مضمون ,ودراسة اوتمعن , فحلقات الالوان لاتطاق , الاشكال غامضة , ومن الصعب معرفة الاتجاة الذي تتحرك فية اليد والى اين يتجه الرأس , بعض الوحات تضم شخوصا لايجمعهم موضوع , الالوان منثورة كالرشاش ,ويلاحظ الازرق والاخضر احتلتا اغلب المساحة )
كتب ( ليو تولستوي ) عن الانطباعية قائلا :
( الناس اللذين نشأوا على تذوق ( غوتا )و ( شيلر )و ( موست ) و ( كينز ) و ( هوغو )و ( دافنشى ) واخرين .... يبدو وكانهم لا يميزون بين قدم ورأس هذه الموجة الجديدة , الانطباعية ببساطة هي دعوة لانتاج فن عديم الذوق وجنوني وشيء تتمنى تجاهلة .
مواقف كهذة لامبرر لها,اذ ان الانطباعية انتشرت اكثر من غيرها من اساليب فنية اكثر ثباتا , وثانيا ان عدم فهم معطياتها قد تأتى من قصور اذهاننا في استيعاب فن روادها ,,( بيسارو , بروست , مونيه , شتراوس , فاغنر , ابسن , مانيه , رينوار )
فن الرسم الانطباعي , الذي رفضه الناس ولم يتقبلة الذوق العام ,كان مجرد نزعة ثورية غير مكتملة رغم ميلنا للتفكير بانها نهائية .
الانطباعية كانت مدرسة رائدة للرسم , لكنها بالوقت نفسةحزمة مواقف مشتركة لفنانيها تجاه الاشكالات الاساسية التي طرحا فنهم في ايجاد طريقة جديدة للنظر والشعور , نمط جديد باسلوب الحياة منحهم العزيمة لتجاهل كل العقبات االتي واجهوها في مسيرتهم .
الانطباعية كانت مفهوما سرعان ما انتشر سريعا خارج حدودها الاصلية مانحا عالم الفن التحرر والثورية ونسمة هواء نقي .
انشر شعاعها بطيفة لنراة مضيئا في الشعر والموسيقى وكتابة الرواية في النصف الاخير من القرن التاسع عشر تاركا الابواب مشرعةعلى مصراعيها لما يأتي من بعد.
Bookmarks